أيديولوجية الدعوة إلى الحداثة – 8 – ج2
توقفت في الجزء الأول من هذه الحلقة (الثامنة) قبل حوالي 16 شهرا عند
النقطة التي يتحدث فيها الدكتور توفيق السيف في كتابه "الحداثة كحاجة
دينية"، ويذهب فيها بالحرية إلى أبعد من "حرية التعبير"، مستشهدا بجزء من
آية كريمة: "إن إصلاح الثقافة يستهدف ..... تحريره من سطوة السلطة وقمع
المجتمع وقيود الخرافة والتقاليد، وهذا (عنده) مفهوم الآية المباركة التي
تعتبر انعتاق الإنسان واحدا من أبرز أهداف الرسالة السماوية: (وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (1)
وقد بيّنت عمق التغليط الذي اقترفه الدكتور السيف باستشهاده بتلك الآية
المباركة، فلا حاجة بأن أعود إلي ذلك مرة أخرى هنا. فسوف أتجاوز كل
مغالطات "الحداثة كحاجة دينية" في هذا الجزء من حلقة "الحرية" لأبحر في
المعاني الفلسفية لحرية الحداثة وما بعد الحداثة، أسبابها، وتأثيراتها
الاجتماعية.
ينقل يورغن هابرماس – عن دانيال بل، أحد المحافظين الجدد في أمريكا –
بقوله أن الحداثة هي "الإغراء الكبير الذي يحمل مبدأ التحقيق الذاتي غير
المحدود، والسعي وراء خبرة ذاتية أصيلة، وذاتية تحسُّس بالغ جدا للسيادة.
يطلق الإغراء بذلك دوافع لذيّة، ليس لها أي رابط بنظام حياة الوظيفة، ولا
بالقواعد الخلقية لسيرة حياة عقلانية الهدف ... أي إلى حضارة حداثيتها
تنشر العداوة ضد تقاليد وفضائل الحياة اليومية .." (2)
ومبدأ التحقيق الذاتي غير المحدود، هذا، يبدأ عند هيجل الذي يعتبره
هابرماس المؤسس الفعلي للحداثة، فيقترن لدى هيجل "مفهوم الذاتية بالحرية
والتفكير". (3)
وهذا المفهوم بالذاتية المطلقة في فكر هيجل ينطلق من تأليهه لنفسه: "إن
أرقى وعي الله هو وعي هيجل. فالله هو هيجل"! وهذا ما عبر عنه الشاعر هاينه
في كتابه "اعترافات"، وقد كان تلميذا لهيجل بين 1821 و 1823 بقوله: "كنت
يافعا وفخورا، وكان يزيدني زهوا أن أتعلّم من هيجل بأن الذي يسكن السماء
ليس الله – كما كانت تعتقد جدتي – وإنما الله هو أنا بذاتي هنا على
الأرض"! (4) ومن هنا تنبثق فكرة الحرية الحداثية التي "لا يسعها إلا إطاعة
الشهوات والميول." (5)
وتحقيق الذات، هذه، هي نوع من النزعة الإلحادية، بل – كما يؤكد بول يكور – بقوله: إنها نزعة إلحادية مثالية (6)
فإذا كان التأسيس الفعلي عند هيجل، وفي زمنه وجزء من فلسفته المبنية على
فكر التنوير والثورة الفرنسية، (7) فإني أرى أن الحداثة ما هي إلا جزء من
الفكر العام للتنوير مثلها في ذلك مثل الماركسية التي تطورت من فلسفة هيجل
المؤلهة للإنسان، والتي يؤكد هابرماس – الذي ينتمي إلى مدرسة فرانكفورت
والتي كانت مهمتها بلورة فكر تنويري جديد مرتبط بالماركسية – بأنها
(الماركسية) "ما هي إلا جزء من فكر التنوير" (
الإنسان – عند الماركسية – هو وجود نوعي، ليس فقط لأنه يتبنى النوع في
ممارسته ونظريته كموضوع له ... ولكن ... لأنه أيضا يعامل نفسه على أنه
النوع الفعلي الحي؛ وعلى أنه كائن شامل، وبالتالي حر. (9)
وقد ادّعى التنوير سعيه باستمرار إلى عتق الإنسان وتقرير حريته وسيادته.
ومن العجب أن هذه الأرض التي ينتشر فيها التنوير والحرية هي نفسها التي
تزهو بالكوارث المتفجرة (10)
والتنوير الذي كان يدّعي أن هدفه الأصلي هو تحرير العقل البشري من
الأسطورة، تحول هو ذاته إلى أسطورة تخفي الهيمنة والسيطرة والتسلط، وسعى
إلى تأييد الواقع السائد، ولم يعد يخدم قضية الحرية، بل حرص على إخضاع كل
شيء متفرد تحت لوائه، وجعل حرية السيطرة الكامنة فيه تسود الأشياء ثم ترتد
إلى وجود الإنسان نفسه ووعيه. وأنتجت النزعة العقلية غير الثورية تسلطية
جديدة، وأصبح الهدف النهائي للعقل المستنير هو السيطرة على الطبيعة عن
طريق التكنولوجيا. فالعقل الذي حرر الإنسان من سلطة الطبيعة، يبرر الآن
سيطرته على الإنسان نفسه باعتباره جزءا من الطبيعة التي يسيطر عليها، بل
ويقوم بعملية تكيف مع حضارة لا إنسانية. (11)
وبعدما أعلن ماركس أن الدين هو "أفيون الشعوب"، جاء بعده نيتشه الذي يعتبر
المؤسس لفكر ما بعد الحداثة ليعلن أنه لم يعد بإمكاننا التأكد من أي شيء،
فالأخلاق كذبة والحقيقة خيال والإله قد مات، ولا يبقى أمامنا إلا الخيار
الدايونايسي (نسبة إلى الإله الإغريقي دايونايسوس، إله المسرح والخمر)،
وهو يتنبأ "بأن الانتصار التام والنهائي للإلحاد سيحرر الإنسانية" (12).
وبعده يحاول روزنزويغ Rosenzweig أن يحرر الإله: "إن الله نفسه يتحرر من
خلال خلاص العالم على يد الإنسان، وخلاص الإنسان في العالم" (13)
ويكتمل مسلسل مقدسات الحداثة، وما بعد الحداثة، وما بعد – بعد الحداثة مع
"اوشو" وكتابه "الحرية: الشجاعة على أن تكون ذاتك" ليكمل ما بدأه هيجل،
وماركس، ونيتشه: "إذا كان هناك إله، فالإنسان لا يمكن أن يكون حرا .. ذلك
مستحيل. لذلك أعلن نيتشه: لا بد من موت الإله ... لكن ذلك هو، فقط، جزء
مما ينبغي عمله ... الجزء الآخر هو: موت الدين! وبموت الدين، يموت معه
الكاهن، والحاخام، والإمام ... ثم يغلق المسجد، والمعبد، والكنيسة...
عندئذ، فقط، يكون الإنسان حرا" (14)
يبقى أن عددا من المواقف الهيجلية والماركسية والنتشوية والسارترية إزاء
قضية التغيير في المجتمع قد تسرب في النظريات المتعددة للوجودية
والبنيوية، وما بعد البنيوية، والسيميولوجيا، ذلك على الرغم من أن ممثلي
هذه النظريات كانوا ينظرون إلى أنفسهم – في الغالب – بوصفهم غير هيجليين
أو ماركسيين، أو حتى أنهم معادين للشيوعية. (15)
فوكو – على سبيل المثال – يسلم بوجود حقب تاريخية تهيمن عليها شفرات
معرفية تناظر الأبنية المهيمنة، كما يسلم بأن بعض الأبنية يسمح بظهور
الماركسية أو يبشر بها. (16)
فممارسات ما يسمّى بـ "العصر الجديد New Age" والتي يُدّعى أنها من علوم
"التنمية البشرية"، مثل تفكير العصر الجديد New Age Thinking والبرمجة
العصبية اللغوية NLP، والتي يقول أبوها الروحي جريجوري باتيسون أن الإنسان
قد ضاق ذرعا بالإله، فطرده من الجنة (17) ليكتسب حريته (حرية الإنسان) ..
كل هذه الممارسات تنبع من التسمية التي ابتدعها هيجل: العصر الجديد New
Age. (18)
الحداثة، إذن، تفرض علينا مقدساتها التنويرية، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدسات.
فما هي هذه الحرية؟لقد وضع سقراط لحرية الرأي فلسفة ونظاما. فحرية الفعل والقول كانت من السمات البارزة في النظام السياسي الأثيني. (19)
وجون ستيوارت ميل خصها بكتاب: "عن الحرية"، يقول فيه: لا يزعم أحد أن
الأفعال يجب أن تكون حرة شأنها شأن الآراء الحرة. على العكس، حتى الآراء
تفقد حصانتها، عندما تكون الظروف التي يعبر فيها عن تلك الآراء على نحو
يشكل فيه التعبير عنها تحريضا ايجابيا لبعض الأعمال الفوضوية الضارة. إن
الرأي القائل بأن تجار الذرة هم مجوّعو الفقراء، أو أن الملكية الخاصة
سرقة، لا ينبغي أن يتدخل فيها أحد عندما يتم تداولها ببساطة. لكنها تستدعي
عقابا عادلا عندما يصرح بها شفاها على حشد من الجماهير المهتاجة المتجمعة
أمام منزل تاجر من تجار الذرة، أو عندما توزع على نفس الحشد على شكل
لافتات. (20)
وجاء آدم فيرجوسون ليقيدها بقوله: ليست الحرية أو الليبرالية، كما قد يبدو
من أصل الاسم، إعفاء من كل القيود، بل إنها في الواقع أكثر الاستخدامات
فعالية لكل قيد عادل على كل أعضاء مجتمع حر، سواء كانوا حكاما أم رعايا.
فالحرية قد تقارنها أو تلزمها القيود. ولكن القيود – عند سري نسيبة –
خارجة عن مفهوم الحرية، وليست جزءا من طبيعتها. الحرية، بحسب طبيعتها، هي
الحرية مطلقا وبدون قيود، كالجمال الذي هو أيضا وبحسب طبيعته، جمال بدون
قباحة. فإن كانت الحرية من حقي الطبيعي، فتكون حرية بلا شروط. وإن قيل إن
الحرية بشرط من حقي الطبيعي، فلا تكون الحرية من حقي الطبيعي أصلا، مهما
كان الشرط، لأن لا معنى أصلا للحرية المشروطة. فأن تكون الحرية المقيدة هي
من حقي الطبيعي، هذر من الكلام. (21)
ويستطرد سري نسيبة في حديثه عن الحرية متسائلا: ما هي حرية التعبير في
رأيك؟ قد تجيب فتقول إنها الحرية التي لا تسمح بالتشهير والشتيمة والمس
بالشعور والتي تسمح لك بأن تعبّر عن رأيك بصراحة، فيما عدا ذلك. فهل تخلط
بين ما تعتقد أن حرية التعبير يجب أن تكون، وبين ما هي حرية التعبير فعلا؟
(22)
فقط عند الفوضويين تكون الحرية بدون قيود كما يعبر عنها باكونين بأن
"قوانين طبيعتنا الخاصة هي بمثابة الأرضية الحقيقية لوجودنا والأصل الفعلي
لحريتنا" وهي عند شومسكي أساسا لـ"نظرية أخلاقية ليبرالية مهمتها تحديد
هذه القوانين وتأسيس أرضية حقيقية لتحول اجتماعي له أهدافه على المدى
الطويل". وبعبارة أخرى، تنخرط السياسة الشومسكية في المشروع الفوضوي
لمجتمع تحدده كلياته الطبيعية (23)
في العالم الإسلامي، تأتي الإشارات الأولى على استخدام مصطلح "الحرية"
بمعنى سياسي محدد في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في زمن
الإمبراطورية العثمانية، ويعود إلى التأثير الأوروبي على الإمبراطورية،
وكانت أحيانا تظهر كترجمة مباشرة من مصادر أوروبية. ويعد مصطلح "سربستيت"
Serbestiyet، تجريد لمصطلح "سربست" Serbest، والذي يصف في الاستخدام
التركي الرسمي "غياب حدود أو قيود معينة". (24)
فهل كان هذا ما يقصد والدي – يرحمه الله – عندما كان ينعتني بـ "السربوت" في أوقات فوضويتي؟
===========
مصادر:
1- توفيق السيف، الحداثة كحاجة دينية، ص 66
2- يورغن هابرماس، الحداثة وخطابها السياسي، ص 19 – 20
3- يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص 16
4- رينيه سرّو، هيجل والهيجلية، ص 51
5- المصدر السابق، ص 62
6- بول ريكور، محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا، ص 75
7- يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص 17
8- يورغن هابرماس، بعد ماركس، ص 5
9- كارل ماركس، المخطوطة الأولى، ص 112
10- ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير، ص 25
11- عطيات أبو السعود، الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، ص 71
12- فريدريك نيتشه، جينالوجيا الأخلاق، ص 78
13- يورغان هابرماس، الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي، ص 54
14- OSHO، Freedom: The Courage to Be Yourself، صفحة 23 – 26
15- إديث كريزويل، عصر البنيوية، ص 19
16- المصدر السابق، ص 83
17- كيني فينسينت Vincent Kenny، مجلة AlfaZeta، يناير 1998
18- Jurgen Habermas, The Philosophical Discourse of Modrnity صفحة 5-6
19- الأصول اليونانية للفكر السياسي الغربي الحديث، فضل الله محمد اسماعيل، ص 36
20- جون ستيوارت ميل، عن الحرية، ص 89 – 90
21- سري نسيبة، الحرية بين الحد والمطلق، ص 18
22- المصدر السابق، ص 27
23- م.بيشو، ف.كادي، آلة الدولة توجد داخل الرؤوس
24- برنارد لويس، الإسلام في التاريخ – الأفكار والناس والأحداث في الشرق الأوسط، ص 477 – 478